محمد وهبة
الجمعة 1 آب 2025
لدى وزير الاقتصاد والتجارة عامر البساط رؤية اقتصادية ضمن مدى يصل إلى 10 سنوات (2035). وهي تقوم على ترميم النموذج القائم في سياق عملية «تصحيحية» تؤدي إلى ضخّ استثمارات بقيمة 120 مليار دولار ما يحفّز مضاعفة الناتج المحلي الإجمالي إلى 60 مليار دولار. ومثل كل الأخطاء الشائعة والساذجة، ترتكز هذه الرؤية على التعامل مع أعراض ظاهرية للانحرافات البنيوية في الاقتصاد اللبناني، على أمل أن تعيد إحياء النموذج المنهار. البساط كغيره، لم يجرؤ على الإقرار بفشل يستدعي إجراء تغيير في نموذج الاقتصاد السياسي في لبنان بل فضّل تقديم طرح لـ«إصلاحه». البساط سيعقد مؤتمراً اقتصادياً في 27 تشرين الثاني المقبل لعرض هذه الرؤية بعد استكمال جولة من المشاورات مع الوزارات «القطاعية».
تنطق رؤية البساط من ضرورة تجديد وتحديث خطّة ماكينزي، ثم دمجها مع ما يأتي من اقتراحات من الوزراء الذين يلتقيهم. ينتظر البساط من الوزراء تقديم إجابات عن ثلاثة أسئلة: ما هي نظرتكم للقطاع في السنوات العشر المقبلة؟ ما هي العوائق التي تحول دون الوصول إلى الأهداف المحدّدة؟ ما هي الخطوات الجديّة التي توصل إلى هذه الأهداف؟ وبالاستناد إلى نموذج حسابي، استنتج البساط أنه يمكن مضاعفة الناتج المحلي الإجمالي ليبلغ 60 مليار دولار خلال سبع سنوات ولكن يجب أن يكون هذا النمو قائماً على الاستثمار وليس على الاستهلاك والدين كما كان في العقود الماضية. ويستنجد البساط بثلاث دول لديها ناتج فردي كبير يتجاوز 40 ألف دولار سنوياً، مثل قبرص واليونان وإسبانيا الجنوبية، للقول إن هذه الدول تشبه لبنان بمقدراته، وليس مستحيلاً الوصول إلى إنتاجية بهذا المستوى. أيضاً يقول إنه يجب ربط الاستثمارات بأولويات القطاعات من زراعة وسياحة وصناعة. يتطلّب الأمر، وفق البساط، استثمارات بقيمة 120 مليار دولار، أي بمتوسط 12 مليار دولار سنوياً يجب أن يأتي 80% من القطاع الخاص و20% من القطاع العام.
لعلّ البساط لم ينتبه إلى أن نماذج الدول الثلاث التي ذكرها قائمة على الخدمات وأن السياحة ليست قطاعاً إنتاجياً إن كانت تصنّف قطاعاً في الأساس، وأن الدول الثلاث الذي ذكرها (قبرص، إسبانيا، اليونان) اتخذت قراراً في الانضواء بالاتحاد الأوروبي وتخلّت عن عملتها للتداول بعملة لا سيطرة لها عليها، وأن هذا الأمر كان في العمق أحد أسباب الأزمة المالية في اليونان. فهذ الخيار الذي اتخذته هذه الدول لم يكن سهلاً، خلافاً لما يقدّمه هو من خيار «سهل» نسبياً في ترميم نموذج يقوم على الخدمات. فهل في إمكان أحد قادة صندوق «بلاك روك»، أن يجيب عن الأسئلة الأهم: من أين ستأتي الـ120 مليار دولار؟ أي قطاع خاص؟ أي شركات ترغب في الاستثمار؟ في أي بيئة؟ ضمن أي مستقبل؟ أيضاً يتوجب عليه أن يجيب عن أسئلة أبعد: الاستثمار يعني توسيع القطاع المستهدف، فمن هي العمالة التي ستشغّل هذا القطاع؟ هل سيعمل اللبنانيون في الصناعة والزراعة؟ هل هم سوريون؟ إذاً ما الذي يجب القيام به في المسألة التي يطلق عليها شربل نحاس الهجرات بين لبنان وسوريا؟ اللبنانيون يهاجرون إلى دول الخليج وأميركا وأوروبا وأستراليا بحثاً عن العمل، والسوريون هاجروا إلى لبنان بحثاً عن العمل وازدادت أعدادهم حين انفجر الوضع الأمني في سوريا، فهل سيعودون إلى بلادهم أم يفضّلون العمل في لبنان؟ كيف سنقنع اللبنانيين بالتوقف عن الهجرة؟ ما الذي يجب القيام به في قطاع التعليم مثلاً لإعداد عمال للقطاعات المنويّ توسيعها وتوجيه الاستثمار إليها؟ أي بيئة ضرائبية ستصيب القطاعات والعمال؟
ثمة الكثير من الأسئلة التي لا يقدّم البساط أجوبة عنها، ما يجعل من هذه الرؤية مجرّد كلام عام ليس مطروحاً أصلاً لنقاش جدّي. فالخيارات التي يجب أن تتخذ للقيام بخطوات التغيير ليست تقنية، بل هي سياسية. هنا يقدّم الوزير البساط نقطته الثانية: العلاقة بين لبنان وصندوق النقد الدولي. هو يأمل ألا تكون هناك ضرورة للاقتراض من الصندوق، بل أن تكون هذه العلاقة في إطار بلورة خطة اقتصادية مع الخارج وردم فجوة المصداقية بين لبنان والخارج. ويقدّم البساط خمسة عناوين لعلاقة لبنان مع الصندوق: الاستقرار المالي بما يعنيه ذلك من إيجاد حلّ للقطاع المصرفي ولقضية المودعين، وضع القطاع المالي على مسار مستدام وصحّي، التوجيه نحو السياسات القطاعية لتحسين التنافسية، بناء المؤسسات لا سيما العلاقة بين القطاعين العام والخاص وعلاقة كل منهما مع المجتمع ربطاً برأيه أن علاقة الاثنين مع المجتمع غير صحية، معالجة أدوات اتخاذ القرار وتحسين إصدار الداتا والمعطيات وتحليلها.
ضخّ 120 مليار دولار من الاستثمارات في 10 سنوات لمضاعفة الناتج
الواقع، إن البساط يغفل تماماً في هذه المقاربة عمق وجود صندوق النقد الدولي في أي دولة، وبالتحديد في لبنان. لا يربط الوزير بين هذه العلاقة وبين ما حصل في السنوات الست الماضية من انهيار مالي ونقدي وعدوان إسرائيلي وتصعيد غربي يقوم على تحويل الأدوات المالية إلى سلاح بوجه لبنان. لا أحد ينتظر من البساط أن يكون لديه انتماء سياسي، ولكن من طرحه بدا كأنه يعيش في عالم آخر. ألم يسمع بما يقوله توم باراك عن الإصلاحات المطلوبة من لبنان؟ ألم يستمع مراراً وتكراراً إلى ما قاله ويقوله وسيقوله المبعوثون الفرنسيون المعنيون خصيصاً للإصلاح في لبنان؟ ألم يسمع السفير الفرنسي في لبنان هيرفيه ماغرو يتحدّث عن الإصلاح في لبنان ويقول بـ«فخر» إن خبيرة اقتصادية من الخزانة الفرنسية انضمت إلى فريق وزير المال ياسين جابر؟ كما يريد البساط من دلائل على أن «الإصلاحات» التي يطلبها الغرب يندرج فيها ضمناً هدف سياسي اقتصادي مالي. وإلا، فإن اختزال الكلام بالمسألة التقنية مع صندوق النقد الدولي، هو سذاجة تجعل أعضاء المجلس التنفيذي في الصندوق، الذين يمثّلون بلدانهم وفق حصص المساهمة، يسقطون أرضاً من الفرحة، إذا كانوا مهتمين بلبنان إلى درجة الاستماع إلى كل تصريح.
رغم ذلك، يبدو النقاش مفيداً، ولو أن الوزير رفض مراراً وتكراراً، استقبال «الأخبار» دوناً عن غيرها. فهو يقول إن لبنان يعاني من مشكلة تضخّم ومن ارتفاع في مستويات الأسعار! مفاجأة قطعاً أن يقول الوزير هذا الكلام أمام أعضاء المجلس الاقتصادي والاجتماعي بحضور «أبو رخوصة» نقولا الشماس، وبحضور أتباعه مثل بشارة الأسمر وسائر ممثلي الأحزاب في ما يسمّى الاتحاد العمالي العام الذين اتفقوا سوية برعاية وزير العمل محمد حيدر، على كفّ النقاش في تصحيح الأجور والاكتفاء برفع الحدّ الأدنى إلى 28 مليون ليرة. «واو». كل عامل حقّه أن يتقاضى حدّاً أدنى بقيمة 312 دولاراً في بلد مدولر وأسعار تتضخم باستمرار ومستويات الأسعار فيه مرتفعة. ما يزيد الأمر حراجة، أن البساط يدرك أن لبنان يعيش مرحلة «ركود» نتيجة السياسات النقدية المتشدّدة التي يمارسها مصرف لبنان بالتعاون مع وزارة المال. ويضيف أنه إذا ترجمنا هذه السياسات المحلية على أسعار الفائدة الأميركية، فتكون الفائدة المدفوعة فعلياً في لبنان بمعدل 24%... التساؤل يختلف تماماً عن تلك العبارة التي قالها في ذلك اللقاء: هناك قيادة حكيمة للوزير ياسين جابر... وكرر أيضاً أكثر من مرّة: نعمل مع الحاكم. إذاً، يعلم البساط أن النموذج القائم على هيمنة السياسة النقدية ما يزال قائماً مع تغيّر في قنوات الهيمنة. فقد كانت المصارف هي القناة الأساسية لهذه الهيمنة ثم هناك قنوات الاستدانة، أما اليوم، فالقنوات هي الضريبة بالإضافة إلى اتفاق شفهي بين الحاكم ووزير المال أرساه وسيم منصوري، بألا تضخّ الوزارة أي أموال إلا بعد التنسيق مع مصرف لبنان للحفاظ على سعر صرف ثابت. والآن نحن محكومون بهذه المعادلة التي لا قوام لها سوى التقشّف الشديد الذي ينتج ركوداً وثباتاً في سعر الصرف وانهياراً في القطاع العام والعاملين فيه. عن أي استثمارات يتحدّث الوزير؟ يقول إن أحد أسباب التضخّم أن الأجور ما تزال في مرحلة التصحيح، لذا إنه من التلقائي أن ترتفع الأسعار. هل يبرّر الوزير ارتفاع الأسعار بتصحيح الأجور. عليه أن يثبت أولاً نسبة تصحيح الأجور حتى الآن، وأن يقدّم أمثلة عن حصّة الأجور من الناتج في قبرص واليونان وإسبانيا الجنوبية وغيرها من البلدان التي تشبه لبنان. في قبرص يقدّر أن هذه النسبة تصل إلى 45% من الناتج مع نموّ للأجر الشهري الوسطي لعام 2024 بـ5%. منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية ترسم مستويات لحصّة الأجور من الناتج تراوح بين 55% و65%. هذا يعيد طرح كل الأسئلة السابقة عن الاستثمارات والعمالة والهجرة والتعليم والعلاقة مع سوريا ودول الخليج والأردن والعراق وغيرها، وعن حجم الاستثمارات ومصدرها. بحسب تقديرات الخبير الاقتصادي كمال حمدان، فإن حصّة الأجور من الناتج لا تساوي أكثر من 15% في أحسن الأحوال. أن يكون نصف الناتج أجوراً، وأن يأتي ربع الأجور كحدّ أقصى من القطاع العام، فهذا يعني أنه تترتب زيادة أجور العاملين في القطاع العام من 1 مليار دولار حالياً إلى ما لا يقلّ عن 3 مليارات دولار. أما بزيادة الناتج إلى 60 ملياراً، فهذا يعني أنه يترتب أن يحصل العاملون في القطاع العام على أجور بقيمة 7.5 مليارات دولار.
المسألة ليست في التفاصيل. بل في أن النموذج الحالي الذي انهار في منتصف 2019، مهما تغيّر شكله هو معرّض للانهيار مجدداً. يجب ألا نغفل أن لبنان - القطاع المصرفي الرائد انتهى بعد نهاية السرية المصرفية، وأن تمويل الاقتصاد ما يزال يعتمد على تحويلات المغتربين بشكل أساسي، ولبنان بحاجة إلى صناعة مغتربين للحصول على المردود. هذه الأحجية برسم وزير «بلاك روك».